إدارة واعية تعيد الروح للعمل الجماعي في زمن التحديات-جريدة الراصد٢٤

 

بقلم دكتوره شروق شعبان 

تُعد الصهيونية المسيحية ظاهرة مركّبة تتجاوز كونها تيارًا لاهوتيًا داخل البروتستانتية الأصولية، لتتحول إلى مشروع أيديولوجي–سياسي يعكس أزمة الغرب الروحية ويُسقطها على الشرق الأوسط. فهي تقوم على تأويلات تدبيرية تربط قيام دولة إسرائيل بالنبوءات، وتحوّل الدين إلى خريطة سياسية، يصبح فيها  الاحتلال جزءًا من خطة إلهية لا تقبل النقاش. وبهذا المعنى، يمكن وصفها بأنها لاهوت قوة يوظّف النصوص المقدسة لتبرير الهيمنة، ويختزل قيم العدالة والرحمة في صراع جيوسياسي.

من الناحية الفلسفية، تكشف الصهيونية المسيحية عن مفارقة خطيرة وهي ان الدين الذي يُفترض أن يكون رسالة خلاص، يُستعمل كأداة لإنتاج هوية صراعية تُعرّف ذاتها عبر نفي الآخر. كما انه يمكن اعتبارها تعبير صريح عن القلق الوجودي الغربي الذي يتم اسقاطه على المنطقة باعتبارها مسرحًا للنبوءة،ومن ثم تحويل الشرق الأوسط إلى مختبر لتجارب لاهوتية–سياسية. 

هذا البعد الأنثروبولوجي يفسر لنا كيف يتم اختزال العرب والمسلمون في خطابها كـ”أعداء النبوءة”،الأمر الذي به يعزز خطاب الكراهية ويُضعف صورة العرب عالميًا.

📌الجذور الفكرية واللاهوتية

نشأت الصهيونية المسيحية من قراءات تدبيرية ونبوئية أعادت ترتيب نصوص العهدين في إطار زمني صارم، مانحةً الدولة القومية حمولة لاهوتية تتجاوز السياسة إلى القداسة.ومن ثم، تبرير السياسات الواقعية باعتبارها تحقيقًا للنبوءات، واختزال الدين في مشاريعهم السياسية

وعليه يمكن القول بأن في جوهر هذا التصور تكمن لدينا ثنائية شديدة الخطورة: الا وهي الـ دعم الغير مشروط لمشروعات سياسية باسم الدين وباسم النص المقدس، وعليه تتم إزاحة قيم الإنجيل حول العدالة والرحمة والمصالحة لصالح قراءة صراعية.

---

📌موقف الكنائس الغربية والعربية

لم يكن المشهد الكنسي الغربي كتلة واحدة، لكنه في الوقت ذاته أظهر رفضًا واضحًا لتحويل التدبيريات المتطرفة إلى سياسة إيمان رسمية. فقد صدرت بيانات ومداولات سينودية تنتقد تشويه رسالة الكتاب المقدس حين يُستخدم لتبرير الهيمنة والعنف، مؤكدة أن المحبة والكرامة الإنسانية هي جوهر المسيحية.

أما عن السياق العربي، فقد اتسم الخطاب الكنسي بحساسية مضاعفة تجاه أي مزج بين اللاهوت المُسيَّس والمشروعات التي تُضر بالعيش المشترك. 

وعلي ذلك رفضت الكنائس المحلية أي توصيفات من شأنها الصاق المسيحية بأي  أيديولوجيات وافدة، وأكدت مسؤوليتها في حماية وحدة المجتمع وصون الثقة المتبادلة، رافضة استيراد نزاعات تأويلية لا تعكس تراث المنطقة ولا أولويات مواطنيها.

---

📌انعكاساتها على الواقع العربي والمصري

انعكاسات هذا التيار على الواقع العربي متعددة: 

حيث تم إعادة إنتاج منطق الاستعمار بغطاء ديني جديد. 

وشرعنة الاحتلال الإسرائيلي. 

ومن ثمً العمل على إضعاف السردية الفلسطينية. 

كما أنه قام بتغذّية التطرف المضاد عبر استفزاز الخطاب الديني العربي والإسلامي. 

📌أما في مصر، فتتخذ الانعكاسات أبعادًا أكثر حساسية، إذ تُعتبر مصر في خطاب الصهيونية المسيحية “مفتاح المنطقة”، الأمر الذي يجعلها هدفًا لضغوط سياسية وأمنية متزايدة. 

هذه الضغوط كفيلة بأن تضع مصر أمام معادلة صعبة حول حماية أمنها القومي وهويتها الحضارية، وفي الوقت ذاته قوتها في التعامل مع سياسات دولية تقوم على  شرعنة الاحتلال وفرض التطبيع. 

✅ ولا ننسي أن ننوه علي أن تسرب الخطاب الصهيوني عبر الإعلام الغربي هدفه الأول هو التأثير على الرأي العام،واعادة  إنتاج صورة إسرائيل كـ”دولة مقدسة”، الأمر الذي يشكّل في ذاته تحديًا ثقافيًا وحضاريًا لمصر.

📌وعليه تكون انعكاسات تلك القضية ظاهرة لدينا  في ثلاث دوائر مترابطة:

    أولها / الوعي العام باختزال الدين في صراع جيوسياسي يُضعف الثقافة الدينية الرصينة ويحوّل النصوص إلى أدوات تحريض.

وثانيها / في الوحدة الوطنية والوعي بأن اي أيديولوجيا دخيلة ملصقة بالمكوّن المسيحي المحلي يُنتج سوء فهم وريبة، وعليه أكدت الكنائس المصرية علي حرصها الشديد في الحفاظ علي شراكة الوطن.

وثالثها / الحوار الإسلامي–المسيحي وانزياح النقاش من قضايا العدالة والكرامة إلى جدل مصطلحي وصراعات هوية من شأنه تعطيل البناء المشترك واستنزاف الثقة.

📌مبادئ التعامل الرشيد مع تلك الأيديولوجيات المهيمنة :

• تعريف المفاهيم بدقة و التمييز بين المسيحية كإيمان محلي أصيل، وبين أيديولوجيا سياسية وافدة.

• رفع الكفاءة المعرفية المتعلقة بالقضايا المعقدة ومناقشتها عبر باحثين ورجال دين مختصين.

• إسناد الحوار إلى القيم المشتركة المتمثلة فى العدالة والرحمة والكرامة الإنسانية أرضية أصيلة في الديانات السماوية .

• تحصين المجال العام عن طريق رفض تدوير النزاعات اللاهوتية الغربية في قالب الهوية المحلية.

• مساءلة التوظيف السياسي للنصوص والتأكيد على ان النصوص المقدسة لا يجوز بأي حال من الاحوال أن تُستخدم لتبرير الهيمنة أو نفي حقوق الشعوب.

📌وفي النهاية يمكن لنا القول بأن النقد الفلسفي لهذا التيار يكشف لنا مدي تناقضاته الداخلية: 

فهو يدّعي القداسة بينما هو يُشرعن الهيمنة، ويستند إلى النبوءة بينما هو يُهمّش العدالة. 

📌ومن ثم فإن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون فقط بالسياسة، بل بخطاب حضاري–فلسفي بديل يعيد الاعتبار للعدالة الكونية، ويقدّم قراءة إنسانية للنصوص الدينية، ويُبني سردية عربية–مصرية تربط القضية الفلسطينية بالكرامة الإنسانية لا بالهوية الدينية وحدها. 

هذا الخطاب البديل من شأنه  أن يُحصّن الداخل من التوظيف السياسي للنصوص، ويؤكد أن المسيحية المحلية بريئة من هذه الأيديولوجيا الوافدة، وأن مصر وطن يتسع لإيمان مختلف وعدالة واحدة وكرامة لا تُجزَّأ.