ضمن جولاته التفقديه رئيس قطاع قنا والبحر الاحمر بشركه مطاحن مصر العليا بمواقع الإنتاج بمطاحن قوص جريده الراصد 24

الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر 

في لحظة فنية استثنائية تعيد بناء العلاقة بين السينما والموسيقى، يطل النجم حسام حبيب بأغنية "وجع الفراق" ليُقدّم واحدة من أكثر التجارب الصوتية عمقًا وتأثيرًا في المشهد الفني الحديث. الأغنية ليست مجرد عمل موسيقي مرفق داخل فيلم "السلم والثعبان 2: لعب عيال"، بل تبدو كأنها الكيان العاطفي الذي يسكن بين ثنايا الأحداث، ويكشف الطبقات الخفية في نفوس الشخصيات، ويعيد صياغة مفهوم الألم من جديد. ومنذ اللحظة الأولى، ندرك أننا أمام عمل موسيقي خرج من قوالبه المألوفة ليتحول إلى اعتراف مفتوح عن الفقد، وعن معنى أن يعيش الإنسان نصفًا من حياته وهو يتساءل: هل ننجو أم نظل أنقاضًا؟

ولأن أي أغنية عظيمة لا تولد من فراغ، فإن "وجع الفراق" تقف خلفها مجموعة من صناع الفن الذين استطاعوا أن يتعاملوا مع الألم كقيمة جمالية، لا كحدث عابر. الكاتب الشاعري إبراهيم شتا قدّم نصًا يفيض بالشجن، يعتمد على الطابع الإنساني العميق المبني على جمل قصيرة لكنها ممتلئة بطاقة شعورية قادرة على اختراق أكثر المساحات المغلقة في النفس البشرية. الكلمات تنطلق من مفاهيم بسيطة لكنها تتجلى بفلسفة عميقة؛ فعبارة "أنا انطفيت وأملي ضاع" ليست مجرد افتتاحية لكنها تلخيص لسقوط إنساني كامل، يشبه لحظة انكسار مرآة داخل الذات، بينما جملة "ليه يا نصيب؟ توجع قلوبنا وتتعبنا" تشكّل سؤالًا وجوديًا عن العلاقة بين القدر والإرادة، وعن المسافة الفاصلة بين الاختيار وما يفرضه الزمن، وعن تلك اللحظة التي يُجبر فيها الإنسان على مواجهة الحقيقة حتى وإن كانت قاسية.

وبالانتقال إلى الجانب الموسيقي، يضع الملحن نديم جمال بصمته الفريدة من خلال بناء لحن يحمل روح النص ويخدمه، دون أن يطغى عليه؛ لحن يتأرجح بين الانكسار والصعود، بين المساحة المكسورة التي تبدأ بها الجملة الأولى، وبين الصعود التدريجي نحو مناطق صوتية تمتلئ بالاشتياق المكبوت. هذا التدرّج النفسي في اللحن يعكس فلسفة واضحة: الألم ليس ثابتًا، بل يتغيّر ويتلوّن ويتحوّل إلى شكل آخر كلما حاول صاحبه الهروب منه. ويأتي توزيع محمود الشاعري ليكمل البنية الفنية، فهو لم يقدّم توزيعًا تقليديًا، بل صنع طبقات صوتية تجعل المستمع كأنه يسير داخل غرفة من الذكريات؛ آلات تتنفس ببطء، نغمات تتصاعد كأنها تنهيدة، وإيقاعات خافتة كأنها خطوات على أرض تعيد صدى الفقد.

أما حسام حبيب، فهو المحور الذي تدور حوله روح الأغنية بالكامل. صوته هنا ليس مجرد أداة، بل كيان نفسي مستقل، يخرج وهو محمّل بتجارب لا يعرفها إلا من مرّ بجرح يشبه ما تقوله الكلمات. حسام يمتلك قدرة نادرة على تحويل الجملة الموسيقية إلى مشهد تمثيلي، فحين يقول "تنزل دموعي غصب عني" لا يسمعها المستمع ككلمات، بل كاعتراف بدخول مرحلة الألم الصريح التي لم تعد قابلة للتجمّل أو الإخفاء. وفي جملة "أنا اتهديت" تتحول نبرة الصوت من الحزن إلى الاستسلام، وكأن الذات لم تعد تقاوم وإنما تقف أمام المرآة لأول مرة بلا أقنعة. هذا النوع من الأداء لا يُشترى ولا يُصنع، بل يخرج من فنان يحمل الوجع في داخله ويعرف كيف يترجمه إلى صوت قادر على إحداث رعشة في قلب من يسمعه.

وفي قراءة فلسفية ممتدة لكلمات الأغنية، يمكن القول إن "وجع الفراق" ليست مجرد شكوى من الفقد، بل نص يحكي الصراع بين الزمن والذاكرة؛ فالذاكرة تتمسك بكل تفصيلة صغيرة بينما الزمن يحاول طمسها، والذات البشرية تقف في المنتصف عاجزة عن الانحياز لأي طرف. جملة "مين فينا عارف الزمن ليه بس إيه مخبي؟" تعبير عن الخوف من المستقبل، وعن إدراك أن الألم لا يحدث مرة واحدة، بل يتكرر بأشكال مختلفة كلما قرر الإنسان أن يتذكر أو يحب أو يشتاق. في الأغنية، الحب ليس شعورًا إيجابيًا فقط، بل هو عبء، وعد، امتحان، وتحوّل دائم في معنى الوجود نفسه.

وبعيدًا عن الأغنية، فإن فيلم "السلم والثعبان 2: لعب عيال" يأتي ليعيد طرح الأسئلة التي أثارها الجزء الأول، لكنه يقدمها بمنظور أكثر نضجًا وحداثة. عمرو يوسف يتصدر البطولة بتجسيد شخصية تحمل ملامح رجل عاش التناقض بين مشاعره وقراراته، بينما تأتي أسماء جلال لتقدم وجهًا جديدًا للمرأة التي تقع بين الحب والبحث عن ذاتها، وتظهر بقدرة تمثيلية تجعل حضورها ضرورة داخل التركيبة الدرامية للفيلم. وظافر العابدين يضيف بُعدًا مختلفًا للشخصية الهادئة التي تخفي في داخلها صراعًا لم يُبح به بعد، وهو ما يعطي العمل طابعًا نفسيًا لا يخلو من الغموض. ماجد المصري يمنح الفيلم ثقله الدرامي، وحاتم صلاح يقدم مساحات من التوازن بين الدراما الإنسانية والواقع الاجتماعي، أما فدوى عابد وهبة عبد العزيز وآية سليم، فيشكلن دعائم أساسية في صياغة الخطوط الإنسانية التي تدور في خلفية الأحداث.

ويأتي المخرج طارق العريان ليضع بصمته الإخراجية الخاصة؛ فكما اعتدنا منه، لا يتعامل مع الفيلم كصورة فقط، بل كنَفَس يتنفس، وكحالة تستمر حتى بعد انتهاء العرض. العريان يختار الموسيقى بعناية، ويجعل أغنية "وجع الفراق" ليست أغنية داخل الفيلم فحسب، بل عنصرًا دراميًا يكشف دواخل الشخصيات، ويضيف عمقًا للّحظات التي لا يمكن للصورة وحدها أن تشرحها. اختياراته البصرية، مثل الإضاءة الخافتة والتحولات الحادة بين المشاهد، تجعل الجمهور يشعر أنه داخل عالمٍ يعيش على الشّفَا، عالم لا يقف على قدمين ثابتتين، بل يهتز مع كل نبضة ألم يعيشها أبطال العمل.

وبالنسبة للكاتب أحمد حسني، الذي تولّى كتابة السيناريو والحوار، فقد نجح في خلق جسور نفسية بين الشخصيات، من خلال حوارات قصيرة لكنها عميقة، تشكّل خلفية مثالية للأغنية التي جاءت كخلاصة مكثفة لصراعاتهم. النصّ الذي كتبه حسني ينسجم مع روح الأغنية لدرجة تجعل المتلقي يشعر أن العمل كله قائم على فكرة واحدة: أن العلاقات الإنسانية ليست مستقرة، وأن الحب وحده لا يكفي دائمًا لإنقاذ الأرواح المكسورة.

أما على مستوى الإنتاج، فإن طارق العريان بالاشتراك مع موسى عيسى قدما صورة إنتاجية تُعيد للمشاهد الإحساس بالسينما الحقيقية؛ سينما تعتمد على المشاعر قبل الميزانية، وعلى الفكرة قبل الزخرفة، وعلى الصدق قبل الإبهار. وهذا ما جعل الأغنية تبدو جزءًا أصيلًا من الفيلم، لا مجرد عنصر إضافي، بل جزءًا من روح العمل نفسه.

وفي النهاية، نستطيع القول إن "وجع الفراق" ليست أغنية تُسمع فقط؛ إنها فكرة تُفهم، ومشاعر تُعاش، وتجربة تُحسّ. هي بوابة يدخل منها المتلقي إلى قلب شخصيات الفيلم، ويخرج منها وقد لمس داخله مكانًا لم يكن يعرف أنه مازال ينبض. ومع صوت حسام حبيب، وكلمات إبراهيم شتا، ولحن نديم جمال، وتوزيع محمود الشاعري، وإخراج طارق العريان، تصبح الأغنية فصلًا كاملًا من رواية إنسانية كبيرة، لا تُكتب بالحبر بل بالوجدان. إنها لحظة تجتمع فيها كل عناصر الفن لتقول شيئًا واحدًا: إن الوجع ليس نهاية، بل بداية لإعادة اكتشاف النفس، وربما بداية لحكاية جديدة ينتظرها الزمن.