افتتاح وحدة رعاية مركزة للأطفال بمستشفى الفكرية المركزي يعزز الخدمات الصحية بأبوقرقاص _ جريدة الراصد24

 

كتب ضاحى عمار

من قلب أمواج البحر المتوسط، خرجت شواهد أثرية جديدة لتفتح نافذة واسعة على تاريخ لم يزل غامضًا. فقد أعلنت البعثة الأثرية الدومينيكانية العاملة بمعبد تابوزيريس ماجنا غرب الإسكندرية، بقيادة الدكتورة كاثلين مارتينيز، وبالتعاون مع مؤسسة Ocean Exploration Trust برئاسة عالم المحيطات الشهير الدكتور روبرت بالارد، عن اكتشاف ميناء قديم غارق تحت المياه، كان متصلاً بالمعبد وبالبحر مباشرة. هذا الكشف يعيد إلى الواجهة أسئلة حول الدور البحرى للإسكندرية فى العصر البطلمى، ويضع المدينة مجددًا على خريطة الاهتمام العالمى.

من خلال مسح جيولوجى وأثرى نفذ بالتعاون مع جامعة نيوهامبشير الأمريكية، وإدارة المساحة البحرية المصرية، ومركز رسم الخرائط الساحلية، تبيّن أن الميناء الداخلى كان محميًا بطبقات طبيعية من الشعاب المرجانية. الغواصون عثروا على مراسى حجرية ومعدنية مختلفة الأحجام، إضافة إلى مئات الأمفورات التى تعود إلى العصر البطلمى، وهو ما يعكس حركة تجارية نشطة كانت الإسكندرية مركزًا لها. الأكثر لفتًا للنظر أن خط الساحل القديم كان يبعد قرابة أربعة كيلومترات عن الساحل الحالى، ما يكشف حجم التحولات البيئية التى طرأت على المنطقة عبر القرون.

فى أعماق البحر، بدا أن الاكتشاف يحمل أسرارًا أخرى؛ إذ كشفت أعمال الغوص عن نفق يمتد من قلب معبد تابوزيريس ماجنا إلى البحر المتوسط، وصولاً إلى منطقة تُعرف اليوم باسم سلام 5. وجود هذا النفق يعزز فرضية أن المعبد لم يكن مجرد مكان للطقوس الدينية، بل محورًا استراتيجيًا يربط بين العبادة والنشاط البحرى والتجارى، وهو ما يفتح الباب أمام إعادة قراءة البنية الاقتصادية والدينية للعصر البطلمى.

شريف فتحى، وزير السياحة والآثار، قال فى تصريحات خاصة إن الكشف يعكس العمق البحرى والحضارى لمصر القديمة، ويؤكد دورها كمركز استراتيجى للتجارة والتواصل الثقافى فى العالم القديم. وأضاف أن الوزارة ستواصل دعم المشروعات المرتبطة بالآثار الغارقة، لما لها من قيمة علمية وسياحية قادرة على جذب أنظار العالم إلى مصر.

أما الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، فاعتبر أن هذا الكشف يُعد إضافة علمية فريدة لعلم الآثار البحرية المصرية، إذ لم تشر المصادر القديمة من قبل إلى وجود مثل هذا الميناء. وأوضح أن نتائج المسح الأخيرة تعزز فهمنا للدور الاقتصادى والدينى الذى لعبته مصر البطلمية، وتؤكد مكانتها كمحور بحرى عالمى منذ آلاف السنين.

من جانبها، وصفت الدكتورة كاثلين مارتينيز، رئيسة البعثة، الاكتشاف بأنه فصل جديد فى دراسة تاريخ معبد تابوزيريس ماجنا، مؤكدة أن أعمال التنقيب والبحث ستتواصل للكشف عن مزيد من الأسرار. وذكّرت بأن البعثة كانت قد عثرت العام الماضى على عملات تحمل صورة الملكة كليوباترا السابعة، وأوانٍ طقسية وتماثيل برونزية، فضلاً عن بقايا معبد يونانى يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

الخبير الأثرى الدكتور أحمد عبد الغنى، أستاذ الآثار البحرية بجامعة الإسكندرية، يرى أن وجود ميناء متصل بمعبد دينى أمر شديد الأهمية، لأنه يعكس فكرة التكامل بين العقيدة والدولة والتجارة فى آن واحد"، مشيرًا إلى أن مثل هذه المنشآت لم تكن شائعة إلا فى المراكز الحضارية الكبرى.

وفى السياق نفسه، يؤكد اللواء البحرى المتقاعد حسن العمرى، المتخصص فى التاريخ العسكرى البحرى، أن الميناء المكتشف لم يكن تجاريًا فحسب، بل يحتمل أنه كان يؤدي دورًا دفاعيًا أيضًا، بحكم موقعه القريب من البحر المفتوح"، موضحًا أن الشعاب المرجانية التى أحاطت به كانت بمثابة درع طبيعى يحميه من هجمات محتملة.

الكشف الجديد يسلط الضوء كذلك على التغيرات البيئية الكبيرة التى شهدتها السواحل المصرية. فابتعاد خط الساحل القديم أربعة كيلومترات عن الحالى يعكس ليس فقط ارتفاع منسوب البحر، بل أيضًا النشاط الزلزالى الذى طال الساحل الشمالى عبر القرون. هذه الحقائق العلمية تضيف بُعدًا جديدًا لفهم أسباب غرق أجزاء كاملة من الإسكندرية القديمة، ومنها قصور ملكية وأحياء سكنية ما زالت أسرارها تحتفظ بها الأعماق.

ولا يخفى أن الاكتشاف يحمل بُعدًا سياحيًا مهمًا، فالموانئ الغارقة ومواقع الآثار البحرية تجذب اهتمام السائحين والباحثين من أنحاء العالم، كما أنها تمثل رصيدًا استثنائيًا يمكن أن يضع الإسكندرية على خريطة السياحة الأثرية المائية. وهو ما أشار إليه الدكتور أحمد بدوى، خبير التنمية السياحية، الذى أكد أن الآثار الغارقة تعد من أهم عناصر الترويج السياحى الحديث، لأنها تقدم تجربة مختلفة تمزج بين التاريخ والمغامرة البحرية.

هكذا، يعود البحر ليبوح بجزء من أسراره، وتعود الإسكندرية لتتصدر عناوين العالم، لا فقط كمدينة نابضة بالحياة، بل كأرض ما زالت تخبئ بين أمواجها دلائل على حضارة ممتدة ومؤثرة. ومع استمرار أعمال البحث والتنقيب، يظل الأفق مفتوحًا لاكتشافات أخرى قد تعيد كتابة فصول جديدة من تاريخ هذه المدينة العريقة