نائب بدرجة إنسان

 

متابعة : الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر 

في عالم تتسارع فيه الوجوه والأسماء وتتغير فيه المعايير والموازين، يطل الدكتور الأنصاري النيداني كصوت هادئ لكنه عميق، كالنور الذي يخرج من نافذة قديمة في بيت عتيق ليملأ المكان دفئًا وطمأنينة. حين تم اختياره كأفضل شخصية مؤثرة لعام 2025 لم يكن الأمر مجرد تتويج رسمي ولا مجاملة أكاديمية، بل كان لحظة اعتراف صادق بأن هذا الرجل نجح في أن يحول القانون من أوراق جامدة إلى حياة تنبض، وأن يجعل من قاعات المحاضرات ساحات للفكر والنقاش لا غرفًا للحفظ والتلقين، وأن يمد الجسور بين النصوص والإنسان، بين العدالة كفكرة والعدالة كواقع. إن حضوره يشبه المشهد السينمائي الذي يبدأ بطلوع الشمس بعد ليل طويل، حيث يكتشف المشاهد أن الضوء لم يكن مجرد شعاع، بل رسالة تقول: ما زال في هذا العالم من يحلم بعدلٍ حقيقي.

١- ما معنى أن يتم اختياره شخصية العام المؤثرة؟

إن هذا الاختيار ليس مجرد لقب يُمنح في احتفالية رسمية، بل هو شهادة حيّة بأن تأثير الإنسان في مجتمعه لا يقاس بعدد المناصب ولا بحجم الألقاب، بل بقدرته على إحداث تغيير في وعي الآخرين. الدكتور النيداني جسّد هذه الفكرة حين جعل من علم المرافعات أداة لبناء عقلية ناقدة، ترفض التسليم الأعمى وتبحث دومًا عن العدالة خلف النصوص. اختياره هو اعتراف بأن النفوذ الحقيقي ليس نفوذ السلطة بل نفوذ الفكرة، وأن الشخصية المؤثرة هي تلك التي تترك بصمة في وجدان الناس لا مجرد توقيع على ورقة.

٢- كيف نجح في جعل قانون المرافعات علمًا إنسانيًا لا مجرد قواعد إجرائية؟

المرافعات عنده لم تكن مجرد "إجراءات"، بل قصصًا إنسانية تحكي رحلة الإنسان من باب الظلم إلى قاعة العدالة. كان يقول لطلابه إن كل دعوى هي في حقيقتها حكاية إنسان يبحث عن صوته، وكل جلسة محكمة هي مسرح للحقيقة يتصارع فيه الحق والباطل أمام عيون القاضي. بهذا التصوير تحولت المادة الجامدة إلى مشهد سينمائي يعيش في ذاكرة الطالب، فيرى نفسه جزءًا من القصة لا مجرد قارئ لها. لقد جعل من المرافعات فلسفة عن معنى أن نُسمع وأن يُنصفنا الآخرون، فلسفة تقول إن العدالة ليست رفاهية بل ضرورة وجودية.

٣- ما الفارق بينه وبين أساتذة آخرين؟

الفارق ليس في عدد الكتب أو المناهج، بل في الروح التي يسكبها في كلماته. هناك أساتذة يعلّمونك كيف تحفظ، أما هو فيعلّمك كيف تفكر. هناك من يفتح أمامك الكتاب، أما هو فيفتح أمامك نافذة على الحياة. هذا الفارق جعل الطلاب يتحدثون عنه كمنارة، لا كأستاذ تقليدي. الفارق أن الدرس عنده لا ينتهي بخروجك من القاعة، بل يبدأ حين تواجه الحياة فتجد أن ما قاله بالأمس صار مرشدًا لك اليوم.

٤- كيف يمزج بين الفلسفة والقانون؟

حين يشرح قضية إجرائية بسيطة يربطها بفكرة كبرى: معنى العدالة في التاريخ، علاقة القانون بالحرية، حدود الحق بين الفرد والجماعة. فتشعر أنك في درس فلسفة بقدر ما أنت في درس قانون. يمزج النص بالمعنى، والقاعدة بالتأمل، فيتحول الحوار من درس جامعي إلى رحلة فكرية تُعيد صياغة عقلك. هذا المزج جعل طلابه لا ينظرون إلى القانون كقيود، بل كمساحة للتأمل في معنى الحياة والإنسان.

٥- لماذا يحبه الطلاب بهذا الشكل الاستثنائي؟

لأنهم وجدوا فيه الإنسان قبل الأستاذ. وجدوا من ينصت لهم، من يفهم مخاوفهم، من يبتسم في وجه الطالب المرتبك ويعطيه ثقة أنه قادر على الفهم والنجاح. الحب لا يُفرض بالسلطة ولا بالدرجات، الحب يُولد من شعور حقيقي بأن الآخر يراك، وهذا ما فعله الدكتور النيداني: رأى طلابه كأفراد لهم أحلام لا كأرقام في سجل. ولذلك حين يمشي بينهم، يلتفون حوله لا لأنهم مضطرون، بل لأن قلوبهم انجذبت إلى إنسانيته.

٦- ما فلسفته في التعليم؟

فلسفته تقوم على أن التعليم ليس إلقاء، بل بناء. ليس التكديس، بل التحفيز. يرى أن التعليم عملية شبيهة بالزراعة: الأستاذ يضع البذور، لكن الطالب هو من يسقيها ويجعلها تنمو. لذلك يركز دائمًا على إثارة الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة، لأنه يؤمن أن العقل الذي يتعلم كيف يسأل هو عقل لن يتوقف عن البحث. التعليم عنده ليس تدريبًا على النجاح في الامتحان، بل تدريبًا على النجاح في الحياة.

٧- كيف يواجه التحديات في عصر تتغير فيه القيم بسرعة؟

يواجهها بالإيمان بأن المبادئ الثابتة لا تلغي القدرة على التجديد. يعلّم طلابه أن القانون مثل النهر: له ضفاف ثابتة لكنها تسمح للماء أن يتدفق ويتجدد. لذلك لا يخاف من التطور، بل يستقبله بعقل مفتوح، لكنه في الوقت نفسه يذكّر أن العدالة لا يمكن أن تكون سلعة موسمية تتغير كل عام. التحدي عنده فرصة ليعيد صياغة الفكرة في شكل جديد دون أن يفقد جوهرها.

٨- ما الذي يميّز حضوره في المحاضرة؟

حضوره يشبه مشهدًا سينمائيًا يبدأ بإضاءة المسرح. بمجرد أن يدخل، يسود الصمت، لا لأن الطلاب خائفون، بل لأنهم يشعرون أن شيئًا مهمًا سيُقال. صوته يحمل مزيجًا من القوة والطمأنينة، وحركاته تنقل رسائل غير منطوقة، فتجد نفسك مشدودًا حتى لو لم تكن مهتمًا بالمادة. حضوره ليس مجرد شرح، بل تجربة يعيشها الطالب بكل حواسه.

٩- ما علاقته بالطلاب بعد التخرج؟

لا تنقطع علاقته عند تسليم الشهادات. كثير من طلابه يعودون إليه بعد سنوات ليأخذوا منه المشورة في حياتهم العملية. البعض يصفه بأنه "الأب الروحي" لأنه لا يتوقف عن دعمهم حتى بعد أن يصيروا محامين أو قضاة. هو يرى أن رسالة الأستاذ لا تنتهي عند قاعة الدرس، بل تستمر مادام هناك من يحتاج إلى كلمة صادقة أو نصيحة مخلصة.

١٠- كيف يرى العدالة في جوهرها؟

يرى العدالة كفكرة وجودية قبل أن تكون قاعدة قانونية. العدالة عنده ليست مجرد حكم يُصدر، بل هي توازن داخلي في المجتمع يمنع الظلم من أن يصبح عادة. العدالة هي ذلك الشعور الذي يجعل الإنسان مطمئنًا أن حقه لن يُضيع، حتى لو كان ضعيفًا. لذلك يؤمن أن القانون من دون عدالة جسد بلا روح، وأن القاضي من دون ضمير آلة بلا معنى.

١١- كيف ينظر إلى القانون في علاقته بالحرية؟

القانون عنده ليس قيدًا يكبل الإنسان، بل هو الإطار الذي يمنع الحرية من أن تتحول إلى فوضى. يرى أن الحرية بلا قانون أشبه ببحر بلا شاطئ، قد يغرق فيه الإنسان بدل أن يبحر فيه. القانون هو الضفة التي تحمي، والحرية هي الموج الذي يتحرك. لذلك يشرح دائمًا أن العلاقة بينهما علاقة تكامل لا صراع، فالقانون يحفظ للحرية معناها، والحرية تمنح القانون روحه.

١٢- ما موقفه من الصراع بين النصوص الجامدة وروح العدالة؟

هو يؤمن أن النصوص خُلقت لخدمة العدالة لا العكس. النص قد يكون جامدًا، لكنه ليس صنمًا يُعبد. حين تتعارض روح العدالة مع حرفية النص، لا بد أن يُعاد النظر في تفسير النص بما يحقق الغاية الكبرى: إنصاف الإنسان. يرى أن القاضي المبدع هو من يحول النصوص إلى أدوات للعدل، بينما القاضي الجامد قد يطبق القانون لكنه يظلم الروح. لذلك يردد أن القانون بلا مرونة يتحول إلى سجن، أما القانون بروح العدالة فيصبح طريقًا للتحرر.

١٣- كيف يربط بين التاريخ والواقع القانوني؟

حين يتحدث عن المرافعات لا يكتفي بذكر مواد وقوانين، بل يعيدك إلى جذور العدالة في حضارات سابقة، من محاكم أثينا القديمة إلى المحاكم الإسلامية الأولى. هذا الربط يجعلك تدرك أن القانون ليس وليد اللحظة، بل ثمرة صراع طويل بين البشر والظلم. وعندما تفهم التاريخ، تفهم أن ما نعيشه اليوم ليس معزولًا بل امتدادًا لمسيرة إنسانية أكبر. هذا الوعي يمنح الطالب نظرة أوسع، فلا يرى القانون كأداة معاصرة فقط، بل كتراث إنساني متجدد.

١٤- ما فلسفته في المرافعة نفسها؟

المرافعة عنده ليست مجرد حوار بين محامٍ وقاضٍ، بل مسرحية وجودية فيها الحق يتكلم والباطل يحاول أن يغطي صوته. المحامي عنده ليس موظفًا، بل فنان يرسم بالكلمات لوحة أمام القاضي. كل كلمة تُلقى في قاعة المحكمة هي رصاصة أو زهرة، إما أن تهدم أو تبني. لذلك يؤمن أن المرافعة ليست تمرينًا على البلاغة، بل اختبارًا لأمانة المحامي أمام ضميره وأمام المجتمع.

١٥- كيف يتعامل مع النقد والاختلاف؟

لا يرى في النقد تهديدًا، بل يعتبره مرآة تكشف له زوايا لم يرها. يرحب بالاختلاف لأنه يدرك أن الفكر الجامد هو الذي يخشى الأسئلة، أما الفكر الحي فيستمد قوته من المواجهة. لذلك حين يعترض طالب أو يناقشه، لا يقمعه، بل يحفزه على التعمق. عنده، الحوار ليس معركة لإثبات التفوق، بل مساحة لاكتشاف الحقيقة من زوايا متعددة.

١٦- كيف يتعامل مع طلاب ضعفاء أو فاقدي الثقة؟

يتعامل معهم كأرض عطشى تنتظر المطر. لا يوبخهم ولا يستهزئ بضعفهم، بل يزرع فيهم يقينًا أنهم قادرون على النهوض. يخصص لهم وقتًا إضافيًا، يوجههم بلطف، ويعطيهم أمثلة من حياته ليقنعهم أن الفشل ليس نهاية، بل بداية جديدة. لذلك كثير من طلابه الذين كانوا على وشك الاستسلام صاروا من المتفوقين بفضله. لأنه لم يرَ في ضعفهم عيبًا، بل فرصة ليبرهن أن التعليم رسالة إنسانية قبل أن يكون مهنة.

١٧- ما معنى أن يكون أستاذًا في جامعة ومؤثرًا في المجتمع؟

أن تكون أستاذًا يعني أن تملك سلطة معرفية داخل قاعة محاضرات، لكن أن تكون مؤثرًا يعني أن يتجاوز صدى كلماتك جدران الجامعة ليصل إلى المجتمع كله. الدكتور النيداني لا يكتفي بتعليم طلابه، بل يشارك في الندوات العامة، يكتب في قضايا الرأي، يظهر كمفكر يحلل مشكلات العدالة. هو يرفض أن يبقى العلم حبيس المكاتب، لذلك تحولت أفكاره إلى مرجع للمجتمع، وصار الناس ينظرون إليه كصوت ضمير لا كأستاذ جامعي فقط.

١٨- كيف يوازن بين المحلية والعالمية؟

هو ابن بيئته، يعرف تحديات المجتمع المصري والعربي، لكنه في الوقت نفسه مثقف عالمي قرأ وفهم القوانين المقارنة. لذلك يوازن بين الاثنين: لا يذوب في النموذج الغربي فيفقد هويته، ولا ينغلق على المحلي فيفقد قدرته على التجديد. هذه الموازنة جعلته يبني رؤية متكاملة: قانون مستمد من جذورنا لكنه قادر على التفاعل مع العصر. وهذا ما جعله يحظى بالاحترام داخل مصر وخارجها.

١٩- كيف يعرّف التأثير الحقيقي؟

التأثير عنده ليس في الشهرة ولا في التصفيق، بل في أن يترك أثرًا داخليًا لا يُمحى. التأثير الحقيقي هو أن يغير عقل طالب فيجعله أكثر وعيًا، أو أن يلهم محاميًا فيجعله أكثر التزامًا، أو أن يذكر قاضيًا فيجعله أكثر عدلًا. قد ينسى الناس أسماء المؤثرين بعد سنوات، لكنهم لا ينسون الأثر الذي تركوه في حياتهم. ولذلك يردد أن التأثير مثل العطر: قد لا يُرى، لكنه يبقى عالقًا في الذاكرة.

٢٠- ما الرسالة التي يمثلها اختياره كشخصية العام المؤثرة؟

الرسالة أن المجتمع ما زال يعرف كيف يميز بين الأسماء العابرة والأسماء الباقية. أن التأثير الحقيقي لا يُشترى ولا يُفرض، بل يُكتسب بالصبر والعمل والإخلاص. أن العلم حين يمتزج بالإنسانية يصنع معجزة. اختيار الدكتور الأنصاري النيداني ليس مجرد تكريم لشخصه، بل تكريم لفكرة أن العدالة تستحق من يدافع عنها، وأن التعليم ما زال قادرًا على أن يصنع قدوة، وأن القانون حين يُفسر بروح الحق يمكن أن ينقذ أمة بأكملها من الظلم والفوضى.

في النهاية، يظهر الدكتور الأنصاري النيداني كرمز لعصر يحتاج إلى قدوات حقيقية، إلى وجوه لا تبهرنا بالأضواء بل بالمعنى، إلى أصوات لا تصرخ بالخطابة بل تهمس بالصدق. اختياره أفضل شخصية مؤثرة لعام 2025 ليس تكريمًا فرديًا، بل إعلانًا بأن العدالة والفكر والإنسانية ما زالت قادرة على الانتصار في زمن صاخب. وإذا كان لكل عام بطل، فإن بطل هذا العام هو الأستاذ الذي جعل من المرافعات فلسفة، ومن القانون حياة، ومن التعليم رسالة لا تنتهي.